الاثنين، 30 نوفمبر 2015

سَفير الحُسين (ع) في الكُوفة

سَفير الحُسين (ع) في الكُوفة     
            

 لما كان أهل الكوفة قد كتبوا الى الإمام الحسين (ع) بالقدوم عليهم . . أجابهم في أحد كتبه بما نصه : ( إني باعث إليكم أخي وأبن عمي وثقتي والمفضل من أهل بيتي مسلم بن عقيل ) .
 توجه مسلم بن عقيل الى الكوفة وما أن وصل إليها حتى أتجه الى منزل المختار بن عبيد الثقفي فأقبل إليه الناس يبايعونه حتى بلغ عدد الذين بايعوه حسبما ذكرت المصادر الموثوفة ثمانية عشر ألف رجل . فكتب مسلم الى الحسين (ع) يخبره بذلك ويطلب منه القدوم الى الكوفة .
 بلغ أمر وجود مسلم في الكوفة وذهاب الناس إليه الى مسامع والي الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري . فقام الوالي بدعوة الناس الى التجمع أمام قصر الأمارة وما أن أجتمع الناس قام الوالي بإلقاء خطبة على المحتشدين حذرهم من مبايعة مسلم بن عقيل . بعد إنتهاء الوالي من خطبته . . ذهب عدد من الموالين لبني أمية وأجتمعوا مع الوالي وطلبوا منه إ ستعمال العنف مع الذين بايعو مسلماً . إلا أن الوالي رفض إستعمال القوة . فما كان من هؤلاء إلا أن كتبوا الى يزيد بن معاوية يطالبونه بتعيين والٍ جديد على الكوفة بدل الوالي الأنصاري لكي يتعامل بحزم وعنف مع الموالين لإهل البيت (ع) .
 قام يزيد بتعيين عبيد الله بن زياد والياً على الكوفة إضافة الى ولايته على البصرة التي كان والياً عليها من قبل . فتوجه إبن زياد الى كوفة , وما أن وصل المدينة حتى بدأ يبث جواسيسه بين صفوف المسلمين المنافقين الموالين لمسلم بن عقيل (ع) كما قام بتوزيع أموال طائلة على ضعفاء النفوس لمراقبة تحركات جماعة مسلم الذي كان قد إنتقل الى دار هاني بن عروة وحل ضيفاً عليه . علماً بإن هاني بن عروة كان من أشد الموالين لإهل البيت (ع) .
 وصل خبر وجود مسلم في بيت هاني بن عروة الى عبيد الله زياد فقام إبن زياد بإستدعاء هاني , بعد أن كان هاني قد إمتنع عن الذهاب الى مجلس إبن زياد متظاهراً بالمرض . أضطر هاني بالذهاب الى إبن زياد وما أن وصل حتى فاجأه وقال له ما نصه : ( أتتك بخائن رجلاه تسعى ) ثم قال : ( إيه يا هاني جئت بمسلم بن عقيل فِأدخلته دارك وجمعت له الجموع والسلاح في الدور حولك , وظننت إن ذاك يخفي علي ) !! فأنكر هاني ذلك . . فقام أبن زياد بإستدعاء أحد جواسيسه الذي كان قد إندس من قبل وتمكن من رؤية مسلم بدار هاني بن عروة فحاول هاني إنكار الموضوع ــ جملة وتفصيلاً ــ إلا أن هذا الجاسوس كشف الحقائق . وبعد نقاش طويل رضخ هاني للأمر الواقع وإعترف بوجود مسلم في داره بإعتباره ضيفاً , وأن الضيف لا يمكن إعتذاره .
 طلب أبن زياد من هاني تسليمه مسلماً , فأجابه هاني قائلاً : ( لا والله لا أجيئك به أبداً . . أجيئك بضيفي تقتله ) ؟ !
 كان من جملة الحاضرين في مجلس ابن زياد مسلم بن عمر الباهلي وهو إيضاً من وجهاء الكوفة إلا أنه كان مؤيداً لإبن زياد , فتدخل هذا لدى هاني بن عروة وألح عليه بتسليم مسلم ووعده بإن لا يمسه أي أذى . . فرد عليه هاني بن عروة قائلاً : ( إن عليّ الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح شديد الساعدين كثير الأعوان والله لو لم يكن لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ) . سمع إبن زياد كلام هاني هذا فقال : ( أدنوه مني فادنوه منه فخاطبه . . . والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك ) . فرد عليه هاني: ( إذا والله تكثر البارقة ــ يعني السيوف ــ حول دارك ) . فقال أبن زياد : والهفاه عليه أبالبارقة تخوفني ؟ ! ثم نادى بإعلى صوته وقد إشتد به الغضب : أدنوه مني ! فأدنوه منه فضربه بالقضيب على وجهه , ثم على رأسه , ثم على كتفيه حتى سالت الدماء على ثيابه ووجهه . ثم أمر بحجزه في إحدى غرف القصر .
 لما بلغ مسلم بن عقيل ما فعله عبيد الله بن زياد بهاني بن عروة نادى أصحابه وكانوا أربعة آلاف رجل , فأجتمعوا فخرج بهم لحرب أبن زياد . وتداعى الناس و إجتمعوا , فتوجه بهم مسلم وحاصر القصر الذي أعتصم فيه ابن زياد . في خضم هذه التطورات قام إبن زياد ببث جواسيسه بين أتباع مسلم , فقام هؤلاء بإشاعة الفوضى و إثارة الرعب والخرف بين صفوف أنصار مسلم وأشاعوا بإن جيشاً جراراً قد توجه من الشام نحو الكوفة لسحق مسلم فأنصرف معظمهم , ولم يبق منهم معه سوى ثلاثين شخصاً . . لم تمض مدة قصيرة حتى إنصرف هؤلاء أيضاً . ولما رأى مسلم أنه بقي وحيداً لا يدري ماذا يفعل , إتجه الى أحد أزقة الكوفة , فجاء الى أحد الدور وطرق بابها فخرجت له إمرأة يقال لها ( طوعة ) فطلب منها قليلاً من الماء فجاءت به ثم أغلقت باب دارها . . ثم غادرت مرة أخرى لقضاء حاجة لها , فرأت مسلماً لا يزال جالساً في باب الدار . . فخاطبته يا عبد الله ألم تشرب الماء ؟ قال : بلى فقالت : إذهب الى أهلك . فسكت مسلم . ثم قالت له مرة أخرى نفس الكلام . فسكت مسلم أيضاً . . إلا أنه سرعان ما تكلم فقال : يا أمة الله مالي في هذا المصر أهل ولا عشيرة فهل لك في أجر معروف ولعلي مكافئتك بعد هذا اليوم ؟ فقالت : وما ذاك ؟ فقال : أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني وأخرجوني . فقالت المرأة : أنت مسلم ؟ فقال : نعم . . فأدخلته دارها وأفرغت أحدى غرف الدار له , في الليل جاء أبن هذه المرأة فشاهد أمه تكثر الدخول والخروج الى تلك الغرقة . فسألها عن ذلك . فلم تعر لكلامه شيئاً إلا أنه ألح عليها فطلبت منه أن يعطيها الأمان إن قالت له عن الخبر . فوعدها . . فأخبرته عن وجود مسلم بن عقيل في الدار . وما أن أصبح الصباح ذهب هذا الرجل الى عبد الرحمن بن الأشعث فأخبره بوجود مسلم في داره .
 وفي هذه الأثناء وصل الخبر الى عبيد الله بن زياد فطلب هذا بإن يجلب إليه مسلم ــ حالاً ــ وقام بإرسال عبيد اله بن العباس السلمي , مع سبعين مقاتلاً , فجاء هؤلاء الى الدار , فلما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الجند علم بإنهم جاؤوا للقبض عليه . فأخرج سيفه وقاتلهم قتالاً شديداً فتمكن من قتل العشرات منهم . فلما رأى عبيد الله السلمي تطور الموقف طلب نجدة سريعة فوصله مائة رجل على الفور . فقام هؤلاء بمهاجمة مسلم من فوق السطوح بالحجارة والسهام حتى أصابوا مسلماً بجروح كثيرة , وأستمر مسلم بمحاربة أعوان إبن زياد حتى تمكن من قتل خمسة وعشرين رجلاً آخرين . فبلغ مجموع ما قتل من أعوان إبن زياد سبعين رجلاً , فأنهكت قواه ولم يعد قادراً على الإستمرار في مقاتلة الأعداء ثم قام محمد بن الأشعث وكان أحد قادة المهاجمين بإعطاء الأمان لمسلم إلا أن مسلماً أجابه بإنه لا أمان للكفرة الغادرين . وبعد أن أثخن بالجراح أنشد قائلاً :
أقسمت لا أقتل إلا حراًوإن رأيت الموت شيئاً نكراً
أكره أن أخدع أو أغراأو أخلط البارد سخناً مرا
رد شعاع الشمس فأستقراكل إمرى يوماً ملاق شرا
أضربكم ولا أخاف شراً

 بعد أن شاهد الأعداء قوة بأس مسلم وشجاعته العظيمة هجموا عليه هجمة واحدة وتمكنوا من إلقاء القبض عليه . فجيئ به الى عبيد الله بن زياد فأمر أبن زياد بضرب عنقه ورميه من أعلى القصر .
 إنتهت حياة هذا المجاهد المغوار بعدما أدى الذي عليه في سبيل نصرة الحسين (ع) والدعوة له . . إلا أن تخلي أهل الكوفة عنه وغدرهم به هو الذي جعله يصبح وحيداً فريداً غريباً في تلك الديار . ولكنه لم يعط نفسه الأبية بسهولة بل جاهد في سبيل الله حق جهاده ولم يلن أمام الأعداء . فذهب شهيداً مضرجاً بدمائه الطاهرة فداءً للحسين (ع) ولمبادئ ثورته السامية .
 هنا وجب علينا أن نذكر باعتزاز بالغ ذلك الموقف المشرف الذي وقفته تلك المرأة المجاهدة التي آوت مسلم بن عقيل (ع) بعد أن غدر به أولئك الرجال ذو الشوارب الغليظة والهامات العريضة . والقامات الفارغة إلا أن عقولهم كانت فارغة ورجولتهم ناقصة , بعكس تلك المرأة المناضلة التي وقفت ذلك الموقف البطولي تجاه الشهيد مسلم بن عقيل (ع) فجزاها الله عن الإسلام خير الجزاء . 

المصدر:هذا الحسين-سعيد رشيد زميزم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق